قولوا عنه نصاب، أو صاحب شهادات مضروبة، أو حتى مجرم عتيد فى الإجرام،
فقد ذهب الرجل عند مليكٍ مقتدر، يعرف أقدار الناس، ويجازى على الإخلاص
والعمل الطيب، الذى لا هدف له إلا مصلحة الوطن!!
لم يتحمل قلب الرجل الذى إمتلأ حبا وهياما ببلده.. لم يعد يتحمل سهام
الفاشلين، كانت مشكلة الرجل الوحيدة، انه خلق عبقريا، أو قل إنه خلق عاقلا،
فى امة غارقة - حتى أذنيها - فى الجهل والجنون!!
عندما قال استاذنا محمود عوض، رحمة الله عليه ان الموهبة فى مصر الان،
أصبحت عبئا على صاحبها، وليست ميزة يتميز بها، لانه سيصبح كلوحة التنشين،
التى يصوب عليها كل الفاشلين سهامهم المسمومة!!
عندما كنت أرى وجه صلاح جودة، فى اى برنامج تليفزيونى أو اذاعى أو حتى
حوار صحفى، كنت أتذكر كلمات النابغة محمود عوض، عن الموهبة والموهوبين فى
بلادنا!!
فهذا رجل امتلك علماً غزيراً، وطلاقة لسان نادرة، وقدرة على توصيل
المعلومة الاقتصادية الجافة، لرجل الشارع البسيط، وكل ذلك مغلفاً بخفة دم
مصرية ﻻتتكرر، فتسأله مذيعه مثلاً:
- يعنى إيه يادكتور صلاح، مذكرات التفاهم، اللى بيقولوا عنها فى قمة شرم الشيخ الاقتصادية دى؟!
فيقول لك دى زى واحد ماشى قدامى، وأنا قاعد قدام البيت، رمى علي السلام،
قولت له اتفضل عندنا، اشربلك كوباية شاى، وخدلك حتة كيك، قام قالى شكراً
ومشى!!
وهنا ﻻ الراجل عابر السبيل شرب شاى، وﻻ دخل فى جوفه كيك، وكمان انا ما
تحملتش مليماً من عزومة المراكبية دى، هى دى بالضبط عامله زى مذكرات
التفاهم، هى مجرد وعد لم يتحقق حتى تاريخه!!
بالله عليكم، حد ممكن يبسط أعقد المسائل والقضايا الاقتصادية، لعوام الناس زى كده، فيفهمه أستاذ الجامعة، وبتاع الورنيش!!
لذلك لم أستغرب عندما ذهبت لمطعم فول وطعمية، لشراء ساندوتشات، ففوجئت بعامل المطعم - وكان يعرفنى جيدا - يسألنى قائلاً:
أنا بشوفك فى التليفزيون كتير يا استاذ عصام، بس انا لي سؤال عند سيادتك؟!
قلت: تحت أمرك!!
ففوجئت به يسألنى: تعرف الدكتور صلاح جودة؟!
قلت له ده صاحبى، ففوجئت بالرجل البسيط يقول فى صلاح جودة شعرا، ولم
يكتف بذلك وانما سألنى ليه ياباشا ميخدوش الرجل ده رئيس وزرا، ده ممكن يحل
مشاكل مصر، فى سنة واحدة!!
وعلى الفور وجدت نفسى اطلب الدكتور صلاح تليفونيا، وقلت له ضاحكا :
- ايييه ياعم اللي أنت عامله فى الناس ده، دا انت ليك معجبين فشر
العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ، ففرح كالاطفال بعد ان حدثته عن اعجاب
بائع الطعمية الذى اقف مكانه، وهنا سلمت الرجل التليفون ليحدث صلاح جودة
بنفسه، ومهما اوتيت من بلاغة فلن استطع وصف انبهار الرجل، وكلمات الثناء
والاعجاب ، التى اسمعها للدكتور صلاح، والتى انتهت باصرار العامل على عدم
اخذ ثمن الساندوتشات. .لولا اننى هددته بعدم اخذها وامشى من غيرها !!
الحمد لله ان صلاح جودة ، سمع ورأى اعجاب الناس به خاصة بسطائهم، قبل ان
يغادر دنيانا الاثمة، والمليئة بالثعابين والحيات ، والتى لم تترك جزءاً
من صلاح جودة، دون ان تلدغه وتفرغ سمومهم فيه ، حتى قالوا ان الرجل لايحمل
شهادة دكتوراه من الأصل، فقال الرجل بسخريته المعهودة :
معهم حق ياعم، فأنا لا أحمل شهادة دكتوراه واحدة، ولكن لدي شهادتى دكتوراه، وليس واحدة !!
ولعل حب الناس له هو ماخفف عنه آلالام الطعنات، التى كان يتلقاها فى كل
طلعة شمس جديدة، والتى كان يعلق عليها اى ناجح فى البلد دى، يا عم عصام
لابد وان يدفع الضريبة!!
فى كل تغيير وزارى أنتظر اسمه، فلا أجد له ذكراً، حتى أننى كتبت عقب
التغيير الوزارى الأخير، وقلت يا ناس ريحونا، هو صلاح جودة ده، أمه يهودية،
ولا والده زعيم نازى، حتى تتجاهلوه فى كل تغيير!!
وكتب كاتب فى الاخبار مقالا شهيرا عنوانه:
- ريحونا من صلاح جودة!!
وقال الكاتب فيه -موجها كلامه للمسئولين - من فضلكم، عينوا صلاح جودة
وزيرا للاقتصاد.. فاذا نجح، تم حل كل مشاكل مصر، وإذا فشل نكون خلصنا منه،
بعد ان ملأ الفضائيات، بحلول عجيبة لمشاكل الاقتصاد، وكأنه حااااااوى!!
لم اكن اعرفه - شخصيا - الا منذ عامين عندما تقابلت معه صدفه فى بهو
ماسبيرو، ففوجئت به يتجه نحوى، ويأخذنى بالحضن دون سابق معرفة، وكأنه صديق
حميم، وأسمعنى كلاما لم اسمعه من احد قبله، كله اطراء واستحسان لشخصى
الضعيف، فبادلته الكلمات الطيبة، وقلت له ده انا بتعلم منك، وفى كل
حواراتى أكرر كلماتك البليغة، مصر كان لديها موارد كثيرة، وادارة غبية،
لذلك ﻻ تعرف استغلال هذه الموارد، بل واحيانا تبددها !!
وكنت بين الحين والآخر.. أتبادل معه المكالمات الهاتفية الودودة،
لأستشيره فى اى امر من الامور الاقتصادية، التى أعجز عن ادراكها ، فكان نعم
الناصح الأمين
خلاص بقى صلاح جودة مات، وكل يوم يموت فى بلدنا عبقرى جديد، يذهب وهو يلعن الفشل والفاشلين، فى بلد ﻻيستحق من اهله، إلا كل خير!!
نم واسترح ياصديقى، فلا مجال للطعن فيك بعد اليوم، بعد ان ذهبت عند مليك مقتدر، لا تضيع عنده الحقوق
المصدر: الوفد