الوطن
العولمة ظاهرة اقتصادية عابرة للحدود والسيادات الوطنية، كما لو كان العالم مجرد سوق كبيرة، تقف وراءها شركات عملاقة متعددة القوميات ودول كبيرة فى آن. والعولمة لها وجهان متكاملان: الاقتصاد والتكنولوجيا، ووراءهما تقف الأطراف المسيطرة على هذين المجالين معاً، وقد جاء عصر العولمة بمفارقات جديدة، فبعض الدول تآكلت سيادتها وتراخت سيطرتها على حدودها وأراضيها وأسواقها فصارت مستباحة، بينما عرفت العولمة صعود دور الفعالين المسلحين من غير الدول، فقد ظهرت جماعات صغيرة مسلحة تحاول أن ترث سلطة الدولة ذات السيادة، وتستطيع بفضل استعمالات التكنولوجيا أن تهدد العالم من دون أن يكون لديها دول، بالمعنى السيادى والدستورى، ولكنها أقامت -بالمصطلح المعلوماتى- دولاً افتراضية على طريقة «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» المعروفة إعلامياً بداعش، أو الدولة الإسلامية فى شمال مالى، أو الدولة الافتراضية التى أعلن عنها الشباب المسلم فى الصومال أو جماعة «بوكو حرام» فى نيجيريا أو أنصار بيت المقدس فى سيناء. وهذه الدول الافتراضية أو المنظمات الإرهابية عابرة القارات تشكل تهديداً محتملاً للأمن والسلم الدوليين.إن عالم المستقبليات «ألفن توفلر» يعتقد أن هناك خطورة من حصول الشبكات الإرهابية على الأقمار الصناعية، ولا سيما أن هناك أقماراً «متناهية الصغر»، وقبله حذرنا فى مقال منشور بالأهرام تحت عنوان «سيناريوهات ما بعد 11 سبتمبر» قبل أن يهدأ غبارها من وقوع أجيال جديدة من الأسلحة النووية تُنقل فى حقائب اليد إلى جماعات إرهابية. وقد بات من الثابت أن جماعة النصرة الإرهابية فى سوريا استخدمت سلاحاً كيماوياً محرماً، بينما لُفِّق الاتهام إلى النظام السورى!وكما أن فى العولمة شركات متعددة القوميات، هناك أيضاً منظمات إرهابية متعددة القوميات، أعضاؤها شتيت من كل الأقوام والأجناس، وجميعها تنظيمات إرهابية، ما كان لها أن تلتقى وتجند أعضاءها وتتفق فى أهدافها، وتتبادل المعلومات فيما بينها، وتنسق نشاطاتها وعملياتها وتتوفر على مصادر تمويلها إلا بفضل الثورة التكنولوجية التى صاحبت العولمة، وخلقت شبكات للتواصل والتمويل بين هذه التنظيمات. وقد أظهرت نشاطات إغراء المتطوعين لـ«الجهاد» فى سوريا والعراق طفرة فى توظيف مواقع التواصل الاجتماعى، إذ لوحظ أن هناك تحولاً فى نمط الخطاب الذى توجهه التيارات التكفيرية بهدف إغراء المتطوعين بتقديم صورة أكثر جاذبية عن الجهاد وعن «الثواب» الذى يصيبه المجاهدون مثل غنائم الحرب ونكاح الجهاد وسبى النساء والسيارات الخاصة واستخدام الوسائط التكنولوجية الحديثة. ألم تنقل التكنولوجيا الإرهاب من ظاهرة محلية محدودة إلى ظاهرة عابرة للحدود والقارات؟! وهل تقارن تدفقات «المجاهدين» على سوريا بالحرب الأفغانية فى ثمانينات القرن الماضى التى لم تصل إلا لأقل من 10 آلاف مجاهد من الدول العربية والإسلامية؟! وهو عدد أقل من عدد المقاتلين الأجانب غير العرب فى سوريا وحدها (12 ألفاً من 81 دولة) أى بمثابة (غزوة متعددة القوميات)!ألم تتمكن التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود من تأسيس اقتصاديات موازية تقوم على شبكات تمويلية لا مركزية الطابع خارج نطاق النظام المالى العالمى، حافظت على قدرتها على تمويل عملياتها الإرهابية دون الاعتماد على المصادر التقليدية للتمويل؟! وهو ما يُعرف بالشبكات العميقة، التى تضم تحالفات مصلحية غير مقدسة بين التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة التى تقوم بنشاط واسع فى مجال غسيل الأموال.إن العولمة ظاهرة مليئة بالتناقضات، فكما أنها أنتجت عولمة التجارة وعولمة الديمقراطية وحقوق الإنسان، أنتجت أيضاً «عولمة الإرهاب». وصار صعود الإرهاب مرتبطاً بصعود العولمة. ففيما تضاعف حجم التجارة العالمية منذ سنة 1990 إلى السنوات الأولى من الألفية الثالثة من 5 تريليونات دولار إلى 10 تريليونات دولار، فقد تضاعف حجم تجارة غسيل الأموال -على الأقل - عشر مرات ليبلغ 5.1 تريليون دولار على مستوى العالم. ليس غسيل الأموال الناتج عن فساد مالى وأخلاقى موسع إلا محصلة لتعاون المافيات ومراجع سلطوية متعددة يبرهن فعلياً عن الإرهاب.لقد بات النظام المالى العالمى، بما يشمله من بنوك كبرى، غير ملائم لنقل الموارد المالية عبر الحدود بسبب القيود الأمنية، وصار تعويل التنظيمات الإرهابية الأكبر على شركات الصرافة ونقل الأموال والتعاملات الشخصية والتدفقات المالية عابرة الحدود التى تديرها منظمات الإغاثة الإنسانية والمنظمات الخيرية، فضلاً عن توظيف وسائل افتراضية جديدة للتدفقات المالية عبر الإنترنت من خلال بعض مواقع التحويلات المالية، وغالباً ما تستخدم التنظيمات الإرهابية «عملة افتراضية» تعرف بالبيكتوين Bictoin كآلية لتلقى التمويل من المصادر الخارجية. ويتميز استخدام هذه العملة باللامركزية بدون وسطاء لتنظيم التعاملات، وتستخدم عبر شبكة الإنترنت، كما لا تصدر بأرقام متسلسلة كالنقود الورقية، ولا توجد وسيلة لتتبع التعاملات الافتراضية.إن أسياد العولمة لا تعنيهم الأسباب الموضوعية التى تنتج الإرهاب، بل يكتفون فقط بعولمة محاربة الإرهاب واستخدام الدول الصغيرة فى هذه الحرب بالزج بها إلى صفوف المواجهة الأمامية، أو على الأقل توظيفها لاختراق عدد من الشبكات الإسلامية العالمية، وعوضاً عن جهود عالمية جادة تستأصل الأسباب الموضوعية التى تنتج الإرهاب، يُكتفى بتحالف -عديم الأثر حتى الآن- بين الدول لمحاربة الإرهاب سيان إن كانت الدولة مناوئة له بحق أو داعمة له مثل قطر وتركيا، وهما عضوان بالتحالف العالمى، والتورط التركى فى تمويل بعض الجماعات الإرهابية كجبهة النصرة فى سوريا أو الإخوان المسلمين فى مصر من خلال هيئة الإغاثة الإنسانية التركية لا يعوزه دليل، كما تنحى دراسة أمريكية محايدة باللائمة على قطر لتمويلها جماعات إرهابية فى سوريا وليبيا، وما خفى كان أعظم!