عبد الرحيم على يكتب: "عار تهجير الأقباط "



أشعر بالعار يا سيادة الرئيس، فالملف شائك والجرح غائر، والألم مبرح، إذ كيف يمكن أن يحدث ذلك الفعل المشين بعد ثورتين، دفع فيهما إخوتي من الأقباط ثمنًا فادحًا.

لقد وقف الأقباط شامخين في الثورتين، يدافعون عن وطن الحلم والذكريات والأجداد، وطن جمعنا جميعًا، وصهرنا في بوتقة واحدة منذ مئات السنين، وطن عشقناه معًا، ودافعنا عنه معًا، واحتضناه معًا، وثرنا من أجل كرامته معًا، كيف يمكن لنا إذن أن نتصور حدوث ذلك الذي يحدث من تهجير لأسر مسيحية في الإسكندرية والمنيا وبني سويف، على مرأى ومسمع من الجهات الرسمية للدولة، وبحجة حمايتهم. كيف يمكن أن نستوعب حدوث ذلك، وأنت موجود يا سيادة الرئيس.

لقد تحمل الأقباط تلك الممارسات في عهود سابقة، تجرعوا الألم مرارًا وتكرارًا من أجل أن تأتي اللحظة التي ينصفهم فيها مواطن مصري مسلم، يحمل أخلاقيات عبدالفتاح السيسي، وجئت أنت يا سيادة الرئيس فاستبشر الأقباط خيرًا، خاصة بعد أن أعطيت المثل والقدوة، وذهبت بنفسك في أول زيارة رسمية لرئيس مصري إلى الكاتدرائية لتقديم التهنئة لهم في عيدهم، لكن سرعان ما عادت «ريما لعادتها القديمة»، ذات الممارسات ونفس القصص التي حزنا زمنًا من أجلها، وروعتنا سنوات طويلة، تُرى الآن على مسامعنا وأمام أعيننا، ونحن خجولون من أنفسنا ومنها، لا نستطيع البوح بها إلا لك يا سيادة الرئيس، لأنك المواطن المتسامح الخلوق «عبد الفتاح السيسي».

لقد بدأت مأساة الأقباط الحقيقية، يا سيادة الرئيس، مع بداية حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي بدأه بالتصالح الشهير مع جماعة الإخوان المسلمين، والقطيعة الكبرى مع رجال ورموز الحقبة الناصرية، تمهيدًا للانقلاب الكبير علي كل موروثات حقبة الرئيس جمال عبدالناصر.

كانت حادثة كنيسة الخانكة، بداية تحويل ملف الأقباط والفتنة الطائفية برمته إلي جهاز مباحث أمن الدولة، الذي لم يكن مؤهلاً، ولم يزل، لمعالجة هذا النوع من القضايا والمشكلات الحساسة. 

وجاءت أحداث الزاوية الحمراء 1980 لتمثل أول اختبار لتعامل جهاز مباحث أمن الدولة مع تلك المشكلة، فقد وقف الرئيس السادات، في مشهد مسرحي، يشرح ما كتبه له إبانها وزير داخليته النبوي إسماعيل، مشددًا علي أن المسألة لا تعدو خناقة بين أسرة مسلمة وأسرة مسيحية، حول قطرات من الماء العفن سقطت من شرفة إحداهن علي غسيل الأخرى، الأمر الذي تسبب في مشكلة تدخل على إثرها جيران الطرفين لتتسع مداها في النهاية وتطال مواطنين كثر.

كان الأمر بالطبع أبعد من هذا بكثير، والمفارقة أن أحداث الزاوية الحمراء كانت بروفة نهائية لاستعراض القوة، قامت بها جماعات العنف الديني في مصر قبيل اغتيال السادات، ففي محاولة لتحدي أجهزة الأمن واختبار القوة، جاءت إلي القاهرة مجموعة كبيرة من قادة الجماعة الإسلامية في الصعيد؛ لإشعال تلك الأحداث تحت دعوى منع إقامة كنيسة علي قطعة أرض فضاء بالحي، ووصل بهم التحدي إلي طلب تغيير ضابط مباحث مسيحي كان يعمل بالمصادفة رئيسًا لمباحث الشرابية، وتمت الاستجابة لطلبهم علي الفور، ونقل الضابط المسيحي، ولكنهم علي الرغم من ذلك أشعلوا الأحداث التي راح ضحيتها سبعة عشر مواطنًا، بينهم مواطن مسلم، بالإضافة إلي حرق ونهب ممتلكات عديدة للأقباط ولبعض المسلمين علي السواء.

وكما تفعل أجهزة الأمن في كل حادث، واستمرارًا لسياسة البعد عن وجع الدماغ، التي كانت مطبقة في تلك العهود، قامت بالقبض علي بعض البلطجية المسجلين خطر، وقدمتهم علي أنهم أبطال الأحداث وتم إغلاق الملف.

كان هذا الاستعراض للقوة من قبل الجماعة الإسلامية هو الأخير قبل العرض العسكري في السادس من أكتوبر 81، والذي تم فيه اغتيال السادات، والمفارقة هنا أنه لو تم اكتشاف تلك المجموعة، وعُرض الأمر بصورته الصحيحة علي الرئيس في حينه، لتم تجنب وإحباط محاولة اغتياله في العرض العسكري في أكتوبر عام 1981.

وعلي نفس المنوال نسجت أجهزة الأمن في كل الحوادث التي تعرض لها الأقباط في الماضي، ففي السادس عشر من يونيو عام 1981، توجه أربعة ملثمين، يقودهم علي الشريف، عضو مجلس شوري الجماعة الإسلامية، إلي نجع حمادي بقنا، حيث قاموا بقتل ستة من كبار تجار الذهب الأقباط، وسرقة محتويات محلاتهم، وهي المحتويات التي تم تمويل حادث مقتل السادات، واغتيالات أسيوط التالية له بها.

ووفق الرؤية الأمنية، صاحبة الحق في التعامل مع هذا الملف، تم تعذيب عدد من المسجلين خطر سرقات، للاعتراف بارتكاب الجريمة، ثم تم وضعهم في المعتقلات، وأغلق الملف كالعادة، إلي أن تم اكتشاف اللعبة، عقب اغتيال السادات، وأثناء التحقيق مع المتهمين، الغريب أن الضابط المسئول عن هذه القضية، ظل يترقى في سلم الوظيفة حتي رتبة اللواء، وهو داخل جهاز مباحث أمن الدولة.

لم يختلف الأمر كثيرًا في تسعينيات القرن الماضي، عندما ارتفعت موجة العنف لتطال الجميع، واتخذت الجماعة الإسلامية المصرية المسلحة الأقباط رهينة، لإجبار النظام علي الرضوخ لطلباتهم، وبعيدًا عن الاضطهاد الذي رأيناه بأم أعيننا للأقباط في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات في المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، والذي وصل إلي حد تطبيق الحدود عليهم في مسجد "الرحمن" بأرض المولد بالمنيا، علي مرأى ومسمع من أجهزة الأمن، وكذا تعليق الرؤوس علي أعمدة الإنارة بعد عمليات القتل، كما حدث بين عامي 1992 و1994 في أبوقرقاص بالمنيا، وكذا عمليات التهجير التي طالت عشرات الأسر آنذاك، فإن الاعتداءات علي الأقباط بلغت ذروة لم تبلغها من قبل في مرحلة التسعينيات التي شهدت مقتل أكثر من مائة قبطي في حوادث متفرقة، وظل الأمن كعادته يصف هذه الحوادث المنظمة بأنها حوادث فردية يقوم بها بعض الموتورين غير صحيحي العقيدة، ووصل الأمر بمدير أمن أسيوط اللواء مجدي البسيوني إلي أن وصف مذبحة عزبة الأقباط بأسيوط في فبراير عام 1996، والتي راح ضحيتها ثمانية من الأقباط، بحادث عشوائي.

واكتفى النظام بحفلات التقبيل بين الشيوخ والقساوسة عقب كل حادثة، خاصة عندما تكون عنيفة كحادثة اقتحام كنيسة ماري جرجس بأبي قرقاص في فبراير عام 1997، وإطلاق النار علي المُصلين من الخلف، وهي الحادثة التي خلفت ثلاثة عشر قتيلاً، وانتهى الأمر باحتفال واسع ضم مشايخ وقساوسة من الجانبين، وحضره محافظ المنيا آنذاك اللواء عبدالحميد بدوي، وأُلقيت عدة كلمات من الشيوخ والآباء والكهنة؛ عبرت عن مكنون الود بين الأقباط والمسلمين.

كنت قبلها بسنوات قد غطيت أحداث أبو قرقاص عام 1990 التي تم خلالها حرق مبانٍ وسيارات مملوكة للأقباط في المدينة، تحت دعوى قيام مجموعة من الشباب القبطي بتحريض فتيات مسلمات علي القيام بأفعال فاضحة، وهي الدعوى التي تطورت بعد عشر سنوات، لتصبح علي أيدي كتاب كبار كفهمي هويدي وسليم العوا وآخرين، إجبارهن علي التنصير.

لم يقف الأمر عند هذا الحد في التعامل الأمني مع تلك الظاهرة الخطيرة، فعندما ذهبنا إلي «صنبو» عام 1992 لتغطية المذبحة التي راح ضحيتها أربعة عشر قبطيًا، فوجئنا بالأمن يقوم بحماية الإرهابيين الذين نفذوا المذبحة، بل ويحيل إليهم شكاوى المواطنين، وحصلنا في ذلك الحين علي شكوى لمواطن، وقع عليها رئيس مباحث ديروط بالقول: "الشيخ عرفة للتصرف"، و«عرفة» هذا كان أميرًا للجماعة الإسلامية التي أشعلت الأحداث بـ«صنبو».

كان اللواء عبدالحليم موسي وزير الداخلية آنذاك، يحلو له وصف ما حدث في «صنبو» عام 1992، باعتباره صراعًا عائليًا بين عائلتين لا علاقة له بالتطرف أو الطائفية، وقد شن وقتها هجومًا شخصيًا عليّ، واتهمني بإثارة الفتنة؛ لأنني أطلقت علي ذلك الحادث مصطلح «مذبحة صنبو».

دير المحرق ودميانة وعزبة الأقباط وعزبة داود والتمساحية:
كل هذه الأسماء السابق الإشارة إليها، قرى وأديرة، شهدت مذابح بشعة ضد الأقباط بين عامي 1994 و1997، راح ضحيتها العشرات، وظلت الدولة تتعامل مع المسألة بنفس الأسلوب، لا طائفية في الأحداث، أحداث فردية، لا متهمين يقدمون إلي المحاكم ولا أحكام. مأساة حقيقية أن تضيع هيبة القانون في بلد يباهي الأمم بحضارته التي تعود إلي سبعة آلاف عام، بلد يسمح ببناء الخمارات وكازينوهات القمار، وملاهي الرقص والعربدة لتجار الفشة والكرشة، ويفكر ألف مرة قبل الإقدام علي منح قرار ببناء دار عبادة للمسيحيين!، لقد تكشف لي أثناء سنوات متابعتي لهذا الملف يا سيادة الرئيس، والتي تربو على ربع قرن حتي الآن، أن معظم أسباب الفتنة تأتي من عدم السماح ببناء الكنائس، والبعض الآخر من التراخي في تطبيق القانون علي الجميع، واحترام هيبة الدولة، إذ كيف يُفهم أن يسمح لقاصر أن تتزوج لمجرد أنها مسيحية أحبت شابًا مسلمًا، وتريد الارتباط به، وكيف يسمح قانون في مصر، بتعيين وصي علي تلك القاصر بخلاف أهلها، للسماح لها بتغيير الديانة، وماذا لو تم هذا مع فتاة مسلمة؟، إنها مشكلة تطبيق القانون وإعماله علي رقاب الجميع دون اعتبارات سياسية أو دينية.

بناء الكنائس والتحولات الجوهرية:
في العديسات بالأقصر، والعياط بالجيزة، ومنقطين بسمالوط، ومدن أخري عديدة، في ربوع مصر المحروسة، راح مسلمون عاديون يحرقون كنائس يَتعبد فيها الأقباط لسنوات، لا لشيء إلا لورود شائعة بأن الأقباط في طريقهم إلي ترميمها أو بناء جدرانها التي تهدمت دون إذن أو تصريح من الدولة، والسؤال هنا: كيف تحول هؤلاء البسطاء من المسلمين إلي متطرفين؟!، إن هذه الأفعال كانت، ولحقب عديدة، مقصورة علي فئة من الإرهابيين لهم مطالب سياسية معينة.. فماذا حدث؟.. الغريب أنه لا يوجد أحد يطرح هذا السؤال ولا يوجد من يسعى بجدية للإجابة عنه، وبعيدًا عن السؤال الذي طرحناه، فإننا نري الحل أبسط من أن يظل دهرًا كاملاً حتي يتم تطبيقه واللجوء إليه، وهو ليس بسيطًا وفقط، وإنما أيضًا في متناول سلطات الدولة التي تملك الحق وحدها في السماح ببناء وترميم الكنائس وحماية المتعبدين بها، ولكن يبدو لي أن البعض كان يريد وضع هذا الملف «دائما»  علي سطح صفيح ساخن؛ للمناورة به حينًا وللضغط به حينًا آخر، وللتلويح به في أحايين كثيرة، وهو ما لمسته وأدركته يا سيادة الرئيس عندما تحدثت عن المواءمات السياسية، مشددًا على أنه عصر ولى إلى غير رجعة.

ما أهمله هؤلاء يا سيادة الرئيس ربما عن عمد، أن هذا الملف لا يجب أن يدخل حلبة الاحتراب السياسي مهما كانت الأسباب والدوافع، وإنما يجب وضعه في قلب اهتمامات الدولة بشكل عام، ورئيسها بشكل خاص باعتباره أخطر وأهم ملف في مصر، خاصة ونحن ندرك أن جهات عديدة تقف بالمرصاد منتظرة وقوعنا في الخطأ، وتتمنى في داخلها أن يأتي الخطأ من هذا الاتجاه.

الأقباط مطالبهم محددة وواضحة، وقد كشفت عنها جميع الأحداث والمشكلات التي مرت بالبلاد طوال العقود الخمسة الماضية: إيجاد حل سهل، ومريح، لبناء دور العبادة الخاصة بهم، والبحث عن حلول عملية لمشكلة تمثيلهم السياسي، وإزالة الاحتقان الطائفي بإيجاد قانون ينص علي احترام المعتقدات وتحريم إثارة الفتنة والتحريض عليها، وأخيرًا إعمال القانون، وحماية نساء الأقباط، والقاصرات منهم، خاصة من عمليات الخطف المنظم، التي تتم تحت ستار «غرام الأفاعي» بين مسلم ومسيحية، ذلك «الغرام» الذي لا يسمح سوى أن يكون طرفاه، فتاة مسيحية وشاب مسلم، ولا يسمح بالعكس أبدًا، وأخيرًا إلغاء ومحو كلمة «التهجير القصري» للأقباط نهائيًا من قاموسنا، لأنها عار يطالنا جميعًا يا سيادة الرئيس، خاصة بعد ثورتين عظيمتين.

أما علي المدي البعيد، فمطلوب وضع تصور لقانون مُوحد لدور العبادة، مُسلمة كانت أم مسيحية، والعمل على تمثيل مناسب، أقره دستور ثورة 30 يونيو للأقباط، في البرلمان، هذا بالإضافة إلي إنشاء مجلس أعلي للوحدة الوطنية، يضم حكماء من المجتمع المدني من الجانبين، يكون له حق التدخل السريع، واقتراح إجراءات محددة، لعلاج الظواهر المسببة للاحتقان الطائفي، وبهذا نكون قد عبرنا بمصر إلي بر الأمان.