في أيام اختبائه الأخيرة في باكستان، كان أسامة بن لادن مصراً على متابعة كلّ شاردة وواردة في تنظيمه. لم تكن وسائل الاتصال متاحة بسهولة، فكان يتم تبادل الرسائل بطرق عدة منها "فلاشات usb" ينقلها "ساعي بريده"، بينما كشفت الوثائق التي صودرت من مخبئه في أبوت آباد عن وجه آخر لزعيم تنظيم القاعدة.
في الوثائق، التي أفرجت عنها الحكومة الأمريكية على دفعات بدأت منذ العام 2012، يظهر بن لادن منزعجاً من تراجع القاعدة، في وقت بدا شديد الحرص على رفاهية أبنائه المختبئين في بلدان عدة، وعلى الحياة الجنسية لمقاتليه.
اعلان
الاستمناء الشرعي
في مطلع العام الحالي، وقبل يوم من انتقال السلطة إلى الرئيس دونالد ترامب، صدرت الدفعة الأخيرة من الوثائق وعددها 49. في إحدى المراسلات المصنّفة "سريّة للغاية"، أفتى بن لادن لـ"الإخوة" في التنظيم، الذين تعيقهم الظروف من الزواج، بشرعيّة "الاستمناء" (الحرام شرعاً) لتخفيف التوتّر الجنسي.
تابع تقرير نشرته مجلة "فورين بوليسي" للكاتب سيمون كوتي قضيّة فتوى بن لادن السرية بشرعية الاستمناء (ممارسة العادة السرية)، في إطار حاول فهم "العذاب الجنسي" للمتطرفين الإسلاميين وكيف يساعد في تفسير نشأة العنف الجهادي.
في رسالة تعود إلى ديسمبر العام 2010، يخاطب الرجل الثاني في القاعدة أبو عبد الرحمن أحد "الإخوة" ويدعى أبو محمد (صلاح) ليبلغه رأي القيادة في بعض الشؤون التنظيمية. في الشق الأول تتابع الرسالة قضيّة التعامل مع الأسرى الأجانب لجهة تصويرهم وضمان سلامتهم والتفاوض بشأنهم.
أما في الشق الثاني، فيقول أبو محمد إن هذا الموضوع "شديد الخصوصية وحساس جداً"، موضحاً أنه يُسمح فقط لأبو محمد صلاح وسمير بالاطلاع عليه. وفي تفاصيل الرسالة، "الأمر يتعلّق بمشكلة الإخوة معك والذين يعانون من عزوبية مؤسفة ونقص في توفر الزوجات بسبب الظروف المفروضة عليهم. ندعو الله أن يُفرجها عليهم. لقد كتبت للشيخ/ الدكتور أيمن الظواهري وتشاورت مع أبو يحيى... وكما نرى المسألة، لا نمانع من الإعلان أنه يجوز للإخوة، في هذه الظروف، ممارسة الاستمناء، باعتبار الحاجة القصوى. لقد أجاز الأسلاف ذلك للجماعة. لقد نصحوا الشباب في زمن الفتوحات بالقيام بذلك. وقد وُصف هذا التدبير من قبل الفقهاء عند الحاجة، ولا شكّ أن الإخوة هم في حالة الحاجة القصوى".
تتابع الرسالة في الجانب الآخر الإضاءة على تبعات هكذا فتوى على الإخوة غير المعتادين على ممارسة العادة السرية، فيستشير مرسلها الشخص المسؤول عن إيصال ذلك لـ"الإخوة"، ويدعوه للمتابعة مع علماء الشريعة لديه والنقاش في الخلاصات.
الحرمان الجنسي
عُرف عن بن لادن بأنه زعيم تفصيلي، يتابع أدق الأمور المتعلقة بتنظيمه، لكن في الوثائق الـ6000 التي وجدها الأميركيون، لم يتوقع أحد أن يكون قد ذهب إلى هذا الحدّ من التفاصيل.
غير أن ما كشفته الوثائق عن امتلاك زعيم القاعدة للعديد من أفلام البورنو في مقر إقامته، جعل تفكيره المطوّل وجهده في سبيل تطبيق مسألة الاستمناء غير مستغربين، كما هو الحال مع الزعيم أيمن الظواهري.
أقوال جاهزة
شارك غردبحسب ما كشفته الوثائق السرية في مخبأ بن لادن، أولى زعيم القاعدة اهتماماً خاصاً بالجنس لتحسين أداء مقاتليه
شارك غردأي حركة جهادية لا تولي أهمية للجنس تقلل من فرصها في النجاح.. هذا ما أثبتته تجارب جماعات مثل القاعدة وداعش
يتساءل تقرير "فورين بوليسي" عن كيفية تحديد "الحاجة القصوى" من أجل إجازة الاستمناء: هل هي أسبوع أم شهر أم مجرّد يوم واحد من العزوبية؟ للأسف لم تحدّد الرسالة هذه النقطة. يبدو الأمر، بحسب المجلة، مثيراً للسخرية، لكن الحرمان/ العذاب الجنسي للمقاتلين واهتمام التنظيم تفصيلياً بهذه النقطة، يكشفان أهمية هذا الأمر في نشأة العنف لديهم.
في أعقاب أحداث 11 أيلول، كتب عالم الأحياء التطورية والكاتب العلمي ريتشارد داوكنز في صحيفة "الغارديان" غاضباً بأن المعتدين لم يقدموا على هذا الفعل بدافع الظلم. على العكس، لقد كانوا يسعون للحصول على جائزة الـ72 حورية التي تُعطى لـ"الشهيد" في الجنة، واعتبر أن امتلاء هؤلاء بالتستوستيرون يجعل امرأة من هذا العالم غير جذابة، فيسعون بشكل يائس للذهاب إلى 72 عذراء خاصة بكل واحد في العالم الآخر.
وفي تحليل أدقّ لهذه النظرية، يرى داوكنز أن العنف الجهادي متجذّر في الغلاف العام للقمع الجنسي المستشري في العالم الإسلامي، وفي المجتمعات المسلمة المتواجدة في الغرب. في هذين العالمين، يُصنف الجنس خارج إطار الزواج في خانة التابو - لا سيّما بالنسبة للنساء. وبالنسبة لهذه الحجّة، فإن وصمة العار والقيود التي تحاصر الجنس قبل الزواج تتسبّب بالإحباط لدى بعض الرجال وتزجّهم في عالم الإجرام الدموي.
يناقش الكاتب الإنكليزي - الأمريكي كريستوفر هيتشنز في كتابه الصادر عام 2007 تحت عنوان "الله ليس عظيماً" كيف يسمّمم الدين كلّ شيء في الحياة، ويعتبر أن "مشكلة الجهاديين ليست أنهم يشتهون العذراوات بقدر ما أنهم شباب بكر (لم يمارسوا الجنس)". وتستقي هذه الحجّة أسبابها من مخزون غني من الروايات عن الجهاديين وإيديولوجياتهم.
سيّد قطب و"الاشمئزاز" من الجنس
يستحضر تقرير "فورين بوليسي" موقف مفكّر الجماعة ومؤسس نظرياتها "سيّد قطب"، الذي عرف باشمئزازه من الجنس. ولكنه في الوقت ذاته، كتب في واحد من مقالاته عن تجربة دراسته في الولايات المتحدة بين عامي 1948 و1951 وعن "الفاتنة الأمريكية"، بـ"عيون معبّرة وشفاه عطشى... بأثداء مدورة، وأرداف كاملة، وأفخاذ أنيقة وسيقان رشيقة".
وفي المقال نفسه، يكشف قطب صدمته من الرقص في الكنيسة، حيث "الجوّ يضجّ بالرغبة". يعلق الكاتب مارتن آميس مدعياً أن رغبات قطب الجنسية، التي لم يكن قادراً على تلبيتها، "جعلته شديد الخوف، كما أشعرته بالفضيحة والإهانة، وحرفت أفكاره باتجاه الجريمة".
يمكن هنا العودة إلى حالة محمد عطا، أحد منفذي أحداث 11 أيلول بحسب مكتب التحقيقات الفدرالي، وهو كذلك كان يعاني من القمع الجنسي. عن طيب خاطر انغمس عطا في مهمة ستنهي حياته، لكنه كان مرعوباً من النساء، يرفض مواعدتهم أو مصافحتهم. في وصيته التي تركها، طلب عطا أن يتم دفنه على يد "مسلمين صالحين" وألا يُسمح لأي امرأة بالاقتراب منه. والنساء كنّ بالنسبة لعطا، كما للسيد قطب، خطرات وقذرات: هن مصدر الخطيئة والتلوث الروحي.
ولكن هل يمكن الاكتفاء بنظرية القمع الجنسي كمحفز أساسي للجهاد؟ كيف ذلك وكثر ممن نفذوا عمليات انتحارية أو انخرطوا في الجهاد كان لهم تاريخ من السهر وشرب الكحول ومواعدة الفتيات، وبعضهم متزوج ولديه أولاد؟
يستحضر تقرير "فورين بوليسي" قصة عبد العزيز العمري (مشارك آخر في اعتداءات 11 أيلول) في وجه قصة قمع محمد عطا. يفسّر التقرير بأن حالة العمري ربما تصنّف في خانة الملل من زوجته، ولكن بالتأكيد لم يكن بكراً أو محروماً جنسياً.
أما لجهة من يعيشون حياة "حرة" قبل التطرّف، فيمكن لتعرضهم الزائد للجنس والتحرر أن يدفعهم لارتكاب عنف ديني، كما الحال مع العديد من جهاديي أوروبا في سوريا والعراق اليوم. هؤلاء كمحمد بوحليل (صاحب اعتداء نيس الفرنسي الذي كان لديه "حياة جنسية متوحشة/صاخبة") يدفعهم إحساسهم بالعار ليصبحوا جهاديين قتلة، أو ربما محاولتهم الهروب من ملاحقات قضائية سابقة بحقهم، كما فسّر عالم الاجتماع الفرنسي أوليفييه روا في إحدى مقالاته.
عار النساء
بدوره، يحضر العامل الجنسي في حياة النساء المنخرطات في مجموعات إرهابية. في كتاب الباحثة الكندية ميا بلوم عن النساء والإرهاب، فإن النساء يشاركن بدافع الانتقام أو العلاقات أو الاحترام، بعضهن تعرّض للاغتصاب وأخريات تربطهن علاقات بمجاهدين أو يشعرن بعار العلاقات الجنسية.
إحدى النساء، حسب بلوم، تركت رسالة تقول "إن ضحيت بنفسك في سبيل الله وقتلت بعض المشركين يمكنك الذهاب إلى الجنة مباشرة بغض النظر عن خطاياك السابقة". وبالنسبة لفتاة أخرى، فقد كانت عمليتها الانتحارية "تكفيراً عن خطايا سابقة"، بينها ممارسة الجنس خارج إطار الزواج.
في الخلاصة، تظهر الحياة الجنسية عاملاً أساسياً في تحديد هوية الشخص وعلاقته بالعالم الخارجي كما نظرته لنفسه والآخرين. صحيح أنه لا يمكن اختصار الفكر الجهادي بالعامل الجنسي، ولكن في المجتمعات التي خرج منها الجهاديون كان للقمع الجنسي أو الإفراط به دوراً في رسم مسار هؤلاء.
لقد أولى بن لادن نفسه اهتماماً خاصاً لهذه النقطة في أجل تحسين أداء مقاتليه، والجدير بالمحللين لظاهرة التطرّف اليوم (لا سيما في الممارسات الداعشية) أن يولوا التعمق بها اهتماماً أكبر أثناء دراستهم سبل الحدّ من فعالية أداء هؤلاء المقاتلين.