“موعدنا 30 يونيو".. تلك هى العبارة التى كنتُ أختتم بها جميع مقالاتى منذ قررنا تطهير عرش مصر قبل سنوات ثلاث من مرض الإخوان وإسقاط الجواسيس الذين سرقوها بليلٍ.
على مدى شهرين بدأتُ الحشد ليوم عظيم من عمرى، بالقلم فى مقالاتى وباللسان على شاشات الفضائيات وباللافتات فى الشوارع والطرقات. تخلل هذين الشهرين اعتصامُ المثقفين مع بداية يونيو 2013 الذى كان الشرارة التى أجّجت حماس الشعب المصرى ضد أعداء الحياة خونة الأوطان.
وشكرتُ اللهَ كثيرًا حين حمّل الإخوانُ حقيبةَ الثقافة لرجل غير مسؤول اسمه "علاء عبد العزيز"، يمتلك من عداء الثقافة والفنون والتنوير، قدر ما نمتلك نحن المصريين عداءً لإسرائيل. شكرتُ الله لأن حزمة القرارات الهوجاء التى أطلقها من مكتب وزارة الثقافة، ومنها إقالة د. إيناس عبد الدايم، مديرة دار الأوبرا من منصبها، كانت بداية نهاية عصر الإخوان المُخزى.
يومها هتفتُ: “أهلا بكم فى عُشّ الدبابير، موعد رحيلكم آن أيها الإخوان". فأنا أعلم أن المثقف قد يصمت كثيرًا، ويغضُّ الطرف طويلا، مادام عُشّه الثقافى مُحصّنًا وشرنقته الإبداعية فى أمان، فإذا ما تهدد ذلك العشَّ خطرٌ، خرج عن صمته وانتفض. وهو ما كان بالفعل، حيث التحم المثقفون والفنانون والأدباء على قول واحد وقرار، ربما لأول مرة من عقود طوال، وربضوا فى مقر وزارة الثقافة بشارع شجرة الدرّ بالزمالك، لمنع ذلك المدعو وزيرًا من الدخول، والمطالبة بإقالته. وكنتُ موقنة أن إسقاط الإخوان بات وشيكًا، وهو ما كان.
ثم جاء أحدُ أعضاء مجلس الشورى بحزب النور السلفىّ، وهَرَف قائلا: "الباليه فنّ العُراة"!! وأفتى بتحريمه! يومها سألتنى صديقتى الباليرينا النحيلة "نيفين الكيلانى" والدمع فى عينيها: “هل أجسامنا مثيرة للشهوات حقًّا؟" فأجبتها بسخطٍ: "من تُثِر شهواتِه الفراشاتُ، فعيناه ليستا فى رأسه، بل فى مكان آخر". هنا أدركتُ أن إسقاط الإخوان، بات قاب قوسين أو أدنى. فالإخوان وحزب النور وتيار الإسلام السياسى والتكفيريون، جميعهم تنويعاتٌ مختلفة على نغمة نشاذ واحدة تكره العلم والفن والحياة، بقدر ما يكرهون الوطن.
قدّمتُ شكرى للرجل الذى فضح فكرهم المريض حين أعلن أنه لم ير فى راقصة الباليه الساحرة إلا شهواته وأمراضه، وطلبتُ من فرقة باليه القاهرة أن يهبطوا من برجهم العاجى/ خشبات مسارح الأوبرا، ويقدموا رقصة للناس فى الشارع، كما كان يفعل فنانو التروبادور فى إسبانيا. وبالفعل استجابوا ورقصوا "زوربا" ورقصنا معهم أمام مبنى وزارة الثقافة بشارع شجرة الدر. وكنتُ كما طفلة تتعلّم الخطو الأول، حين أمسك بيدى راقص الباليه الأول بمصر "هانى حسن" وهو يعلّمنى خطوات الرقصة ومعى مئات المصريين من مختلف المشارب والمستويات.
أقسمنا نحن المثقفون ألا نفضّ اعتصامنا، حتى لو أُقيل الوزير المزعوم، حتى يلتحم اعتصامُنا بثورة 30 يونيو الشعبية الخالدة. لوحة المثقفين التى رسموها باعتصامهم الطويل الذى استمر فى الشارع حتى التحم بالثورة، كانت القطعة الفنية الأرقى والأكثر أناقة بين كل ما أنتجته الشعوبُ من قطع فنية خالدة.
وحين حان يوم 30 يونيو، هدرت جموع الشعب من كل صوب تنادى بسقوط الخونة عن عرش بلادنا. وجرت المياه فى النهر على النحو الذى نعرفه جميعًا.
كان رهانُنا هائلا. وكما ظنّنا أن يوم 12 فبراير 2011 هو بداية مصر الجديدة بعد إسقاط مبارك، لولا سرق ثورتنا الإخوان والوهابيون فأرجعونا للمربع الأول، كنا على يقين أن بداية النور والتنوير والانعتاق سوف تبدأ فى اليوم التالى لإسقاط مرسى العياط، يوم 3 يوليو 2013.
لكن المشوار ما زال طويلا وشائكًا وقاسيًّا، لأن البناء عسيرٌ بعد طول هدم بدأه أعداء الحياة منذ نصف قرن يضربون خاصرة مصر بمعاول الظلام والتجهيل ومحاربة الفكر. طويلٌ مشوارنا حتى نوقد ما يكفى من شموع لمحو الظلام الذى رسمه الظلاميون فى أركان مصر وجوانبها. أوقدوا شموعَ التنوير فى بلادى؛ حتى تُكلَّل ثورتُنا بالنجاح، وقلبُ مصرَ بالفرح.