أعلم ما تعانيه العديد من الأسر المصرية بسبب لخبطة امتحانات الثانوية العامة هذا العام جراء «التسريب»، وأتفهم الثمن الذى تدفعه بعض الأسر، وأبناؤها فى الثانوية العامة، من المجتهدين الذين أنفقوا ساعات العام فى الاستذكار، وكروا وفروا مع هذا الماراثون العنيف، ليجدوا أنفسهم فى نهاية السباق فى هذا المأزق المؤلم، بسبب إلغاء امتحانات، وتأجيل أخرى. كل هذه الأمور أستطيع أن أستوعبها، لكن ذلك لا يمنع من ضرورة التوقف أمام موضوع «التسريب» وتحليله بما يستحق من تأنٍّ وتؤدة، حتى نستطيع تبين أبعاده وآفاقه.
بداية علينا أن نعترف أن التسريب عرض ومظهر لمعضلة أكبر تعيشها الدولة والمجتمع فى مصر، وأن تسريب امتحانات الثانوية العامة يخفى فى رحمه تهديدات قد تكون أصعب بكثير من مسألة الامتحانات، ولا أريد أن أزيد عن ذلك!. جوهر المرض الذى يكشفه عرض «التسريب» أن أموراً وأشياء شديدة الحساسية فى هذا المجتمع أصبحت مجالاً للعبث بأيد شعبية وحكومية. الأيدى الشعبية تمتد لتفسد وتخرب بهدف حصد مكاسب بغير حقها، فحول الامتحانات المسربة تشكل «بيزنس» كبيراً، يستفيد منه كثيرون (نسخة الامتحان تباع بألف جنيه طبقاً لموقع شاومينج)، أضف إلى ذلك ما يحصده بعض الطلاب من مجاميع دون أن يستحقونها، وتتلاحم مع الأيدى الشعبية أيدٍ أخرى حكومية بالاستفادة المباشرة أو بالإهمال، إلى الحد الذى يمكن القول معه بأن «التسريب» أصبح عقيدة لدى الكثيرين.
دعونا نتفق على أن مفهوم التسريب ليس مقصوراً على كشف أسئلة وإجابات امتحانات الثانوية العامة قبل دخول الطلاب إلى اللجان، إنه يتسع ليشمل العديد من الممارسات التى تسبق الوصول إلى هذه المحطة. على سبيل المثال ثمة شغف لدى بعض أولياء الأمور والطلاب بتوقع أسئلة الامتحانات، الدليل على ذلك الإقبال الكثيف على بعض المدرسين الخصوصيين، أكثر من غيرهم، بسبب قدرتهم على توقع الأسئلة التى ستأتى فى الامتحان، إن بعض المراجعات النهائية التى تسبق الامتحانات تشهد تكالباً من جانب عشرات الآلاف من الطلاب على الحضور، من أجل الاستماع إلى توقعات الأستاذ!، ناهيك عن أننا البلد الوحيد الذى يوجد فيه كتب تعليمية عنوانها «التوقعات المرئية» وموضوعها توقع الأسئلة التى سوف تأتى فى الامتحان!. تعالَ بعد ذلك إلى المسئولين الذين يغضبون بسبب تسريب الامتحانات، وستجد أن بعضهم لا يتوانى عن إلحاق أولادهم وأقاربهم فى «الثانوية» ضمن اللجان الخاصة، حيث يتاح تسريب الإجابات كاملة غير منقوصة لأبناء المحظوظين!.
يعنى ما سبق أن المواطن والمسئول «إيد واحدة» فى موضوع التسريب، الأمر الذى يسهل معه استيعاب فكرة أننا أمام نوع من «العقيدة» التى تحكم دولة بأكملها. الاعتراف بالمشكلة هو أولى خطوات الحل، كل الأطراف مطالبة بالاعتراف بفكرة الشراكة فى المأساة التى وصلنا إليها، فذلك الاعتراف هو الضمانة الأساسية للحل، والحل بسيط للغاية، تلخصه عبارة «كل واحد يشوف شغله بجد»، ولى الأمر والطالب والمدرس والموظف والوزير والرئيس، لأن أداء الكثيرين أصبح من النوع «التمثيلى»، فى التعليم: يجتمع طالب ومدرس ووزير، ويهيَّأ مسرح اسمه المدرسة، لينخرط الجميع فى مسرحية أو تمثيلية، يمثل فيها المدرس أنه يعلم، والطالب أنه يتعلم، والوزير أنه يراقب أداء المدارس، ورئيس الحكومة أنه يوجه، كله يمثل على كله، لتنتهى التمثيلية بمسرحية هزلية اسمها «التسريب»!