استيقظت مدينة «كولونيا» الألمانية في أول أيام العام 2016 على كابوس التحرش الجنسي الجماعي الذي طال نسائها أثناء الإحتفال بليلة رأس السنة، إذ تقدمت حوالي 700 امرأة حتى الآن ببلاغات للشرطة الألمانية تصف فيها تعرضها للإنتهاك الجنسي ومحاولات السرقة من مجموعات وُصِفَت بأنها من أصول عربية وشمال أفريقية.
بعدها ببضعة أيام كشف مسؤولون محليون في الدنمارك أن عدداً من النساء الدنماركيات تعرضن للتحرش الجنسي مِن قِبَل مَن وصفوهم بـ«طالبي لجوء» في ثلاث مدن على الأقل. وفي السويد أيضاً أكدت وسائل إعلام محلية تعرُّض العديد من النساء للتحرش الجنسي الجماعي من قِبَل شبان، يفترض أنهم من المهاجرين، في العديد من المدن السويدية ليلة رأس السنة، ومن قبلها في مهرجان «ستوكهولم» الموسيقي في أغسطس الماضي.
وفجأة أصبحت قضية التحرش الجنسي بالأوروبيات من قِبَل "عرب وشمال أفريقيين" تتصدر عناوين الأخبار في كل أوروبا والعالم، لدرجة أنه تم تصدير كلمة «التحرش» العربية للغات الأجنبية لكتابتها في الأخبار كما هي ولكن بحروف لاتينية، وكأن التحرش الجنسي أصبح وصمة تطارد العرب والناطقين بالعربية.
استنكر العالم الغربي كله تلك الجريمة الحقيرة، وطالب الكثير من الأوروبيين بوضع إجراءات حازمة لمنع تكرار ما حدث، وظهر غضب شديد على مواقع التواصل الإجتماعي في العالم كله بما فيه بلادنا الناطقة بالعربية. ولكن للأسف لم يكن الغضب والإستنكار هو فقط ما ظهر في بلداننا، بل ظهرت أصوات كثيرة تشمت وتهلل لما حدث وتحاول تذكرة الأوروبيين بالإحصائيات التي ترصد التحرش الجنسي في الغرب وأنه ليس حكراً على العرب، بل وتذكرهم بالجرائم الجنسية التي ارتكبتها بعض الجيوش الأوروبية خلال الكثير من الحروب التي خاضوها والمعاناة التي تعرضن لها النساء الألمانيات من إغتصاب جماعي إبان الحرب العالمية الثانية. فلماذا يشتكين إذن؟! ولماذا توجه أصابع الإتهام نحو شعوبنا؟!
وفي الحقيقة، لم توجد دولة على وجه الأرض عبر التاريخ لم تعرف الجريمة بمختلف أشكالها، فالجرائم الجنسية كما هي موجودة في البلدان العربية، موجودة أيضاً بنسب مختلفة في جميع دول العالم، وواحدة من أحقر وسائل كسر إرادة الشعوب أثناء الحروب والصراعات المسلحة أو حتى الإختلافات الأيدلوجية والسياسية، هو الإنتهاك الجنسي للنساء وإستباحتهن. فهذا تم توثيقه في تاريخ كثير من الدول الغربية كما تم ويتم توثيقه في تاريخ بلداننا الحديث والقديم.
وجرائم الكراهية والعنصرية والقتل والسرقة وغيرها من جميع أنواع الجرائم هي أيضاً موجودة في كل البلدان الغربية والشرقية، فالمدينة الفاضلة الخالية من الجريمة التي حلم بها الفلاسفة وسعوا لتحقيقها، لم توجد قط. وكثير من الأمم المتقدمة ارتكبت عبر تاريخها الكثير من البشاعات والمجازر والإبادات الجماعية بأبشع الطرق وأقساها.
ولكن يتغافل دائماً أصحاب تلك الأصوات الخسيسة أن هناك فرقاً كبيراً بين الجريمة والجريمة المقدسة، وبين العنصرية والعنصرية المقدسة، وبين الإغتصاب والإغتصاب المقدس، وبين السرقة والنهب المقدس، وبين القتل والقتل المقدس. فالأزمة في بلداننا ليست في وجود الجريمة بقدر وجود ما يؤسس لها من تعاليم ونصوص دينية يجعل منها جرائم مقدسة ومستشرية يرتكبها الشخص تقرباً لله وطاعة له دون أدنى شعور بالذنب، بل على العكس، يشعر بالرضا والتباهي لأنه يبرهن إيمانه عملياً! وهناك فرقاً كبيراً بين أن تكسر نَص لتُجرِم، وبين أن تطبِّق نَص فتُجرِم!
فما أبعد الفارق بين شعوب تستمد قوانينها من دساتير مؤسَسَة على بذل أقصى جهد في إحترام الإنسان وحقوقه، فتحاسِب وتجرِّم كل إنتهاك في حق أي إنسان داخل حدود أراضيها، وبين شعوب تؤسس أعرافها وقوانينها على فقه يتقرب لله بقتل المرتد و"الكافر" وإستباحة أعراض وأموال الآمنين والتنكيل بكل صاحب رأي مخالف لإيمان المجموع، وإجتياح العالم كله لإخضاعه دينياً وليس فقط سياسياً، رغم حقارة الفعل في الحالتين.
فهناك يعترفون بالجرائم المخالفة لقوانينهم ويسمونها جرائم، ويوصِّفونَها بأنها خروج على القانون، بل ويحاولون دراستها ورصدها في إحصائيات علمية إذا ما تحولت لظاهرة، لفهم دوافعها وتحجيمها. حتى الجرائم التاريخية، لا يطمسونها، بل يعتذرون عنها في كثير من الأحيان.
أما هنا، فيبررون الجريمة ويأصلون فقهياً لإرتكابها! يقسمون العالم لفسطاطين، فسطاط المؤمنين الآمنين، وفسطاط الكفار المباحين! هنا يطمسون التاريخ ويزورونه، ويتهمون كل من يرفض جرائمهم المقدسة بأنه كافر أو بأنه يتم إستخدامه كذراع من أذرع مؤامرة إخطبوطية كونية خيالية تستهدف الدين وأتباعه.
وفي الحقيقة لو افترضنا جدلاً أن المجتمعات الغربية والأوروبية هي مجتمعات كافرة بها كل أنواع القبح والموبقات، فهل يكون هذا مبرر لوجود قبح مماثل في أمة تؤمن أنها مصطفاه ومختارة لتمثيل الإله؟!
هل هذا مبرر لقتل كل إبداع فني أو فكري يرتقي بروح الإنسان ويسمو بها، وإلصاق جميع مظاهر الحياة السوية بالشيطان، لخدمة ثقافة الموت والقبح المقدس التي يتم إلصاقها بالله؟! فقد صدق أحد المفكرين حين وصف حال بلداننا قائلاً: «عندما نمارس الحب، يكون ثالثنا الشيطان.. وعندما نمارس القتل، يكون ثالثنا الله».
استفيقوا حتى لا تتسع الفجوة أكثر وأكثر بيننا وبين العائلة الإنسانية التي نصر أن نعيش بمعزل عنها!
الحوار المتمدن